الذين نفوا الصفات خرجوا قبل الحلولية والاتحادية، لأن الجهم بن صفوان قتل سنة 128هـ، وأما من قالوا بالحلول والاتحاد فقد أقيمت لهم أول محاكمة علنية حوالي عام 280هـ أو بعدها، وذلك بعد أن أشيع في بغداد أنهم زنادقة، فجمع منهم الجنيد، وذا النون المصري وعدد كبير من عبادهم يزيد عن 80 رجلاً، وسجنوا وحقق معهم، ولكنهم قالوا: نَحْنُ نظهر الإسلام ونقيم الشعائر الخمس وليس عندنا أي زندقة، وأخذت التوبة عليهم، وكان الذي تولى شكواهم وإثارة الدعوة ضدهم هو غلام خليل أحد تلاميذ تلامذة الإمام أَحْمدُ بن حَنْبَل -رحمه الله تعالى- وهذه القضية تعرف بقضية غلام خليل.
وقد بنوا مذهبهم عَلَى مذهب نفي الصفات كالتالي :
قال
أهل الحلول و
الاتحاد: مادام أن الصفات منفية وأن لله وجوداً مطلقاً لا صفة له، فهذا الوجود هو عين ذات الله.
فمن تأثر
بعلماء الكلام إِلَى حد التجهم ونفى جميع الصفات، من الممكن أن يصبح عند
الصوفية اتحادياً وحلولياً، لأنه لم يكن يثبت شيئاً إلا وجوداً مطلقاً، فأتى عند
الصوفية فَقَالُوا: هذا الوجود المطلق الذي لا صفة له هو هذه الأعيان الموجودة.
لأنه عندما قال أفلاطون: إن هناك عالم الموجودات وعالم المثل لم يره أحد ولم يسمع به أحد إلا أفلاطون، وعالم أعيان مشاهد الوجود، فالحقيقي هو هذه الأعيان. فلو كَانَ موجوداً هذا الرب الذي يقوله أفلاطون، فهو هذا الوجود الحقيقي الذي نراه بالعين، ومن هنا قالوا: إن كل العباد والعقائد والأديان هي تهدف إِلَى شيء واحد وإلى حقيقة واحدة، هي حقيقة الوجود وحقيقة الموجودات؛ لكن بعضهم عدَّد في الإشارة وبعضهم وحَّد.
فهم يقولون كما يقول شاعرهم: ما في الوجود حقيقة إلا هو، والصوفية يزيدون عَلَى ذلك بعبارات روحانية فيقولون: إن الإِنسَان إذا نظر بعين البصيرة والتأمل رأى أن هذا كله سراب، فالبشر والحجارة لاوجود لها أصلاً، إنما الوجود الحقيقي هو الله.
فمن هنا اجتمعت النظريتان، الكلامية والصوفية وأدتا إِلَى مدلول واحد، وهو إما: الحلول وإما: الاتحاد وهما متقاربان. فلذلك يذكر المُصنِّف هنا ما يلزم عليهم، فقَالَ: إن كفرهم أقبح من كفر النَّصَارَى، فالنَّصَارَى قالوا: إن الله حل في المسيح، وكفرهم الله تعالى: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم)) [المائدة:72] فهذا كفر، فكيف بمن قَالَ: إن الله هو هذه الحجارة وهذه الأشجار، فهذا أقبح وأشد كفراً.
ومن فروع هذا الكلام أو التوحيد عندهم: أن فرعون وقومه كاملوا الإيمان، عارفون بالله عَلَى الحقيقة، ولذلك صرح ابن عربي بأن فرعون عندما قَالَ: ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) [النازعات:24] لم يكن مخطئاً، ولم يقل إلا الحق، لأنه ليس في الوجود إلا هو، فهو تكلم عن ذات الحقيقة الكلية وعن ذات الوجود.
ولذا قال الحلاج وأبو يزيد وغيرهم: "سبحاني سبحاني ما أعظم شأني" و"ما في الجبة إلا الله"!!.
وقال فرعون: "أنا ربكم الأعلى"، فكان كافراً فما الفرق بين العبارتين؟!
لا شك أن العبارتين واحدة ومدلولهما واحد، ولكنهم عكسوا القياس فَقَالُوا: الحلاج وأبو يزيد مسلمان مؤمنان مع قولهم: "سبحاني، سبحاني" وقولهم "ما في الجبة إلا الله" ففرعون هو كذلك مؤمن ومسلم وموحد فر من الشرك إِلَى التوحيد.
ولذلك يقول هَؤُلاءِ -ومنهم ابن سينا-: القُرْآن شرك كله، وإنما التوحيد عندنا، لأن الإثنينية شرك.
فإن قلت: خالق ومخلوق، وعابد ومعبود، فهذا شرك لأنك عددت.
وأما التوحيد فهو: اعتقاد أن كل الوجود واحد، وما في الوجود إلا هو.
قال الحلاج:
حتى لقد عاينه خلقه كنظرة الحاجب للحاجب
ولما قيل للحلاج إن هذا الكلام كفر قَالَ:
كفرت بدين الله والكفر واجبٌ عليَّ وعند الْمُسْلِمِينَ قبيح
يعني: نظرتكم نظرة كفر ولا يهمني هذا الذي تقولونه.
بل يقولون: إن موسى عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يدعو إِلَى الشرك، لأنه كَانَ يدعو إِلَى اثنين، وأما فرعون فهو الموحد، لأنه يدعو إِلَى شيء واحد، فهو ينطق بعين الحقيقة. ومن فروعه: أن عباد الأصنام عَلَى الحق والصواب لأنهم إنما عبدوا الله لا غير، لأن الوجود كله واحد -وجود مطلق- ولا موجود حقيقي إلا هو كما يقولون، فهذه الموجودات هي ذاته!!
ثُمَّ يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [مما نلزمهم به التحليل والتحريم بين الأم والأخت والأجنبية] لأن الذي يثبت ذوات مختلفة فهو شخص معدد، والتوحيد عندهم أن الكل ذات واحدة، فما الفرق بين الأجنبية وغيرها؟! ولذلك وجد في سيرهم وكتبهم أنهم كانوا يتعاشرون بالإباحية فيقولون: هذا حلال في حقهم، وإنما التحريم في حق العوام لأنهم عَلَى الشرك، فتوحيد العوام أن يقولوا: "لا إله إلا الله"، وأن الله فوق السماوات، لأنهم لا يفهمون. وأما هم فقد عرفوا حقيقة التوحيد، وأن الأشياء كلها واحدة، وسقطت عنهم الحواجز، فلم يعد هذا حلال وهذا حرام.
وقد عقد ابن الجوزي في تلبيس إبليس فصلاً طويلاً عن الصوفية فيما يتعلق بالعشق الذي يجعلونه فيما بينهم -والعياذ بالله- فذكر كلاماً يندى له الجبين، ولا يكاد يصدقه أحد أو يفعله أحد من فساق الْمُسْلِمِينَ مجاهرة، فضلاً أن تكون هي أخلاق أولياء الله الذين هم القدوة وأوتاد الأرض، ولولاهم لنزل البلاء من السماء ولمحقت البركات، ومن عجائبهم: أن النوري -لما صاح غراب عَلَى المنارة- قَالَ: لبيك لبيك. قالوا: لماذا؟ قَالَ: الحق ناداني. فهل الحق في الغراب والعياذ بالله؟!
وهذه كلها مرجعها إِلَى شيء واحد وهو: قضية الفناء الصوفي التي بنيت عَلَى قضية كلامية.
ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [ومن فروعه أن الأَنْبِيَاء ضيقوا عَلَى النَّاس].
لأن الأَنْبِيَاء في نظرهم عينوا لهم معبوداً واحداً، بينما المعبودات في نظرهم كثيرة جداً، وعينوا لهم أنواع محدودة من العبادات.
فهذا دين الله الذي جَاءَ به الأَنْبِيَاء جميعاً عقيدة وعبادة وشريعة محددة، وأما هَؤُلاءِ فوسعوا عَلَى النَّاس وَقَالُوا: الآلهة والمعبودات والعبادات متعددة كله لله ومن الله،
بل قالوا: إن الفاعل الحقيقي هو الله، وهنا تلتقي النظرية الجبرية مع النظرية الصوفية.
بل قالوا أشد من ذلك: أنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله -هذا حقيقة التوحيد عندهم- والبشر وجودهم عارض لا قيمة له، فلو أن إنساناً أعطى فلاناً مبلغاً من المال فالمعطي الحقيقي هو الله، ولاشك أن الله هو الرازق، ولكن يجب أن ينتبه إِلَى أن هَؤُلاءِ يأتون بمثل هذه الأمثلة ثُمَّ يدخلون عليها أمثلة أخرى فيقولون: فإذا زنى الزاني ولا فاعل حقيقي إلا لله؟! -والعياذ بالله- فيجب أن يعلم أن هناك فرقاً بين الخالق للأسباب والفاعل للأسباب فكون الله هو خالق الأسباب هذا شيء، وكونه هو فاعل الأسباب جميعاً هذا شيء آخر، فالله خلقني وجعلني سبباً أن أعطي فلاناً هذا المبلغ من المال، ولا نقول: إن الله أعطى ذلك دون سبب مني. والجبرية والجهمية شيء واحد يقولون: إن البشر كالريشة في مهب الريح، فكل ما يفعله الإِنسَان مقهور عليه، والله هو الذي قدره عليه. وهذه المقولة مع شناعتها وكفرها أقرب من كلام أُولَئِكَ إِلَى العقل.